الأربعاء، 28 أبريل 2010

نشأة علم الوثائق


منذ أن خلق الله تعالى الإنسان وعلمه البيان كان طلب العلم ضالته المنشودة، وإحدى حاجاته الأساسية، من أجل أن يعرف نفسه ويعرف عالمه، ولقد تعلم الكثير وحفظ الكثير حتى ضاقت حافظته فاخترع الكتابة معيناً لذاكرته، تحفظ خبراته ومعارفه عبر الزمن وتنقلها إلى الأجيال الآتية من بني جنسه، فكتب على الأحجار وعلى جدران الكهوف وعلى الطين وعلى البردي وعلى جلود الحيوانات، وعلى كل شيء يصلح أن يكون وعاءً للمعلومات. وعندما تكاثرت هذه الأوعية تفرغ نفر ممن يمتلكون حب العلم والكفاءة لترتيب وتنظيم تلك الأوعية بطريقة تمكن وتسهل الإفادة منها، وكان "الموثوقون" هؤلاء يجرون عمليات البحث والتنقيب والتنظيم لهذه الأوعية، فيستفيدون منها أو يستفيد منها غيرهم.
بهذا الجهد الوثائقي العملي بدأت البوادر الأولى لمهنة التوثيق في أبسط صورها، واستمرت تتطور مع تطوير الإنسان وازدهار حضارته، والتزم الملوك والأمراء وذوو الأمر بتشجيع هذه المهنة العلمية وإقامة مؤسساتها المختلفة من دواوين ودور وثائق وغيرها، وأغدقوا العطايا على القائمين عليها. حيث مارس المسلمون التدوين منذ صدر الإسلام وسجلوا تصرفاتهم في وثائق وذلك راجع إلى تزايد أعداد المتعلمين الذين يجيدون القراءة الكتابة، نتيجة للجهود التي بذلتها الدولة الأسلامية لحاجتها إلى المثقفين الذين يقومون بنشر تعاليم الدين الإسلامي وشرح مبادئه.
وقد قسم العلماء الوثائق العربية بصفة عامة إلى وثائق عامة وهي التي تصدر عن ديوان الرسائل والدواوين الأخرى التي نشأت في الدولة الإسلامية مثل ولاية العهود ووثائق الإقطاع والمعاهدات. ووثائق خاصة وهي التي تسجل تصرفات الخاصة للأفراد سواء كانت بيعاً، أو شراء، أو إيجاراً، أو وقفاً، أو عتقاً...الخ.
كانت الكتابة أول ثورة حضارية للفكر الإنساني، غير أن اختراع الورق وسع قاعدة تلك الثورة وقدم لها سبل التطور والانتشار. لقد كان للعراقيين الأوائل فضل اختراع الكتابة، وكان للعرب المسلمين فضل تطوير صناعة الورق وتعريف العالم بقيمته. وفي القرن الخامس عشر الميلادي إذ اخترعت الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة فنقلت العالم إلى عصر حضاري جديد. فطبعت الكتب بنسخ كثيرة وازداد تداولها بين الناس وانتشر العلم، وظهرت الدوريات، التي صدرت أول أنواعها في فرنسا عام 6561، وهي مجلة أسبوعية بعنوان (Journal des Scavants) وبعدها ـ في العام نفسه ـ صدرت الدورية البريطانية (Philosophical Transactions) التي عدت أول نموذج للمجلة العلمية.
وهكذا ازدهرت حركة طبع ونشر الوثائق الكتب والدوريات وغيرها من المنشورات الورقية، وتزايدت أعدادها وتنوعت أشكالها، غير أن هذا التزايد في أنواع المطبوعات أخذ يتضاعف عبر السنين، حتى بلغ معدل تزايده في الوقت الراهن قدر ثلاث مرات نمو سكان العالم تقريباً• وتتضاعف المعلومات كل 01 ـ 51 سنة، وأنه تصدر اليوم حوالي ثلاثين ألف مجلة علمية وتكنولوجية تحتوي على 0.9 إلى 1.2 مليون مقالة سنوياً.
وفي وقت مبكر أحس المهتمون بقضية توصيل المعرفة بمشكلة تفجر النتاج الفكري العالمي المتفاقمة، وتنبهوا إلى ضرورة وضع حل عاجل لها، فإن الإنسان يقف عاجزاً أمام الاستفادة الفاعلة من هذا الكم الهائل من نتاجات العقل البشري، بلغاتها المختلفة وأشكالها وأنواعها المتعددة، بعد أن ظهر بشكل لافت للنظر عجز الوسائل التقليدية من نظم المعلومات المتاحة في السيطرة على النتاج الفكري وضبطه وتنظيمه وتسهيل الإفادة منه بصورة فاعلة.
ونتيجة لازدهار حركة الطبع والنشر ظهرت مشكلة تضخم النتاج الفكري وتفجر المعلومات، فقد صور فافيلوف (S.I. Yavilov) رئيس الأكاديمية الروسية، رجل العلم وهو يقف منذهلاً أمام جبال المكتبات الشامخة، وليس لديه القدرة على استخراج حبة الذهب التي يحتاجها منها. والعالم الإنكليزي الفيزيائي برنال (J.D. Bernal) كان يرى أنه من الأسهل أحياناً إعادة اكتشاف الظاهرة الطبيعية من أن نجد المادة العلمية التي كتبت عن اكتشافها، ويقول الفيزيائي الفرنسي دي بروكلي (de Broglie L.): >غالباً ما يشعر المرء أنه مدفون تحت أكوام من المقالات والكتابات••• وأنه غالباً ما يعجز عن قراءتها من أولها إلى آخرها، ناهيك عن توفير الوقت للتفكير بها ثانية.
لقد كان الإحساس عالمياً بهذه المشكلة، ويعكس الاهتمام المتزايد من قبل العلماء والباحثين في مجالات المعرفة البشرية كلها، وبالمعلومات وضرورة توفيرها للمستفيدين خاصة وأن الأساليب التقليدية أبدت عجزها عن ذلك. إن لمشكلتي تضخم النتاج الفكري العالمي وتفجر المعلومات أسباب كثيرة يمكن تلخيص أهمها بالنقاط الآتية:
1 ـ الزيادة الهائلة في كمية الوثائق والمطبوعات والمنشورات المتنوعة.
2 ـ فشل الأساليب والوسائل التقليدية في الضبط والسيطرة والتنظيم للمعلومات ولأوعية المعلومات المتراكمة يوماً بعد يوم. إن هذا الوضع وتلك الأزمة العلمية العالمية كانا إيذاناً بميلاد علم جديد، يضع الأسس العملية لحل هذه المشكلات مستعيناً بالدراسات العلمية والوسائل التكنولوجية وتراث وخبرات ومهارات المهنة المكتبية.
نمو وتطور علم الوثائق:
إن الجـوانب العملية لعلم الوثائق كانت الأسبق في الظهور من جوانبه النظرية، وكـلا الجـانبين النظـري والتطبيقي يكونان الهيكل العلمي الحقيقي لهذا العلم، وتمثل المكتبات ودور الوثائق والارشيفات ومراكـز المعـلومـات المتنوعة الميادين التطبيقية لعلم الوثائق. وقد كانت هذه المؤسسات ـ خاصة المكـتبات ـ تقدم خدماتها الثقافية إلى المستفيدين منذ فجر التاريخ، وهي مستمرة في عطـائها، غير أنها بعد التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده العالم، وتفجر المعلومات وازدياد الحاجة إليها وتطـور هذه الحاجـة وتنوعها، قد أصبحت عاجزة عن القيام بواجباتها تجاه المجـتمع كـما ينبغي.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر ظهرت حركة التوثيق (Documentation) التي كانت تهدف إلى تقديم تحليل مكثف لمحتويات أوعية المعلومات، وأكثر عمقاً مما كانت تقدمه الإجراءات المكتبية، وبعد استخدام الحواسيب في العمليات المكتبية أظهرت عمليات استرجاع المعلومات(71) أن هذه المحاولات المعلوماتية المتعددة هي مراحل تطورية لعلم المعلومات في جوانبه التطبيقية، إلا أنها ما كانت لتستمر وتتطور اعتماداً على كونها خبرات مهنية تستند إلى طريقة المحاولة والخـطأ، بل هي بـأمس الحاجة إلى مبادئ وقوانين علمية أساسية تستند إليها في تطبيقاتها الميدانية، وتعتمدها سنداً للتفسير والتخطيط والتطوير، ولقد وجدت مفاهيم علم الوثائق ونظـرياته لبناء هذه الأسس، وتطوير لمبادئ مهنة المكتبات وأهداف التوثيق، وتكاملاً معها واستحواذاً عليها في علم شامل تستظل بمظلته هذه التخصصات والخبرات المهنية بصورة موحدة وهكذا كان وتطور علم الوثائق
واتخذ تسميات متعددة منها:
التوثيق (Documentation)
علم المعلومـات والتـوثيق (Information Science and documention)
علم الوثائق (الدبلوماتيك diplomatics)
علم الوثائق (الدبلوماتيك diplomatics)
علم الدراسة النقدية لمصادر التاريخ الرسمية، مثل: المواثيق والقوانين والمعاهدات والعقود والسجلات القانونية، والوثائق الأخرى المشابهة. كما تشتمل أيضا على دراسة نشأتها وتكوينها وكذلك تقييمها وتمييز الصحيح من المزور. وتعتبر دراسة الوثائق التاريخية أساس علم الأرشيف archival science.
ظهرت دراسة الوثائق التاريخية أولا في فرنسا في القرن السابع عشر في شكل محاولات لإثبات صحة الوثائق الأرشيفية. ثم صقلت في المعاهد الأوروبية وتطورت إلى دراسة قانونية وتاريخية ولغوية للوثائق. وفي القرن العشرين طبقت على وثائق العصور الوسطى وبداية العصر الحديث وكان هدفها تقييم مصداقية تلك الوثائق كمصادر للأبحاث. وأول عمل كبير في هذا المجال قام به Jean Mabillon (1632-1707):
Jean Mabillon's De Re Diplomatic (1681; supplement, 1704)
باللاتينية، ويعني "دراسة الوثائق" والذي نشر في ستة أجزاء
والدبلوماتيقا تتحقق من الكيان المنشئ provenance للوثائق وخصوصا الوثائق الخطية، وتهتم بتطورها وتطبيق المفاهيم الدبلوماتيقية عليها. فهي تفحص المفاهيم الدبلوماتيقية من حيث التنظيم والتأثير على مضمون الوثائق والنظم الأرشيفية الحديثة. وهي تفحص الأشكال المادية والفكرية للوثائق، وتوضح المناهج التقليدية للدراسة النقدية للوثائق التاريخية وتضيف إليها أفكارا تتعلق بالاستخدام الأرشيفي للوثائق. وهي تحاول الوصول إلى صحة أو عدم صحة المنشئ ومصداقية أو موثوقية authenticity الوثيقة عن طريق دراسة:
المادة التي كتبت عليها وكيفية طيها
وفن الكتابة والأبجدية والخطوط التي استخدمت حيث يستخدم علم الخطاطة، أي علم الكتابات القديمة paleography
واللغة والأسلوب اللغوي الذي استخم في الكتابة بما فيها المفردات واستخدامها والنسق الأدبي فيها.
كما تهتم بالإضافة إلى ذلك بالتواريخ والتوقيعات والشهود والأختام
ودراسة الوثائق التاريخية مهم للدراسات التاريخية من أجل التحقق من حدوث وقائع تاريخية معينة من عدمه.
ومن الأمثلة على ثبوت التزوير في بعض الوثائق التاريخية واقعة الهبة التي أعطاها الإمبراطور Roman Emperor Constantine I in AD 324 للبابا Pope Sylvester I ومن يخلفه السيادة والسلطة الروحية على روما. إن مظاهر تطور علم الوثائق يمكن قياسها اعتماداً على مؤشرات إيجابية توفرت له منذ عدة عقود وأهم هذه المؤشرات هي:
ـ باحثون في مجالات علم الوثائق
ـ مدرسون يعملون في حقل الوثائق
ـ مدرسون وبرامج دراسية جامعية
ـ مؤسسات بحثية وأكاديمية مهتمة بعلم الوثائق معلومات

ليست هناك تعليقات: