عندما نقرأ كتابا ما وخاصة إذا كان متعلقا في البحث التاريخي فإن أول ما يلفت نظرنا في الكتاب هو معرفة منهج المؤلف في البحث والتأليف وهل هو بحث يعتمد على منهج علمي حديث يعتد به لمعرفة الوقائع التاريخية بشكل نستطيع أن نقول أنه أقرب إلى الصحة والواقع أم على قراءة انتقائية وتبجيلية فقط ؟ وهل الغرض من الكتاب هو إثبات حقيقة تاريخية بأدوات علمية أم إثبات حقيقة مذهبية أو تاريخية موجودة مسبقا في ذهن الكاتب والكتاب عبارة عن تحشيد للأدلة فقط بما يدعم تلك الحقيقة أو الواقعة من وجهة نظره.
فهناك من الكتاب من يعتمد على منهج أهل الحديث في الكتابة التاريخية وهو المنهج الذي يعتمد على البحث في سند الروايات من حيث الجرح والتعديل للبحث في صحة الروايات من عدمها وحسب علمي فإن الباحث العراقي مرتضى العسكري هو من أوائل من اعتمد على هذا المنهج المتشدد في البحث وذلك في كتابه الشهير «عبدالله بن سبأ … وأساطير أخرى» والذي خصصه في البحث بشكل خاص على روايات المؤرخ العراقي سيف بن عمر التميمي في كتابيه “الجمل ومسير عائشة“ وكتاب «الفتوح والردة» والتي رواها عنه الطبري في الجزء الثالث من تاريخه لأن عمله الرئيسي في الكتاب كان هو جمع الروايات من شتى المصادر والرواة بغض النظر عن صحتها من عدمه وقد توصل الكاتب من خلال تطبيق هذا المنهج إلى نتائج وصفها بالخطيرة والمهمة شجعته على مواصلة البحث في قضايا أخرى ومن ضمنها الكثير من الأحداث والشخصيات التاريخية التي اكتشف العسكري انها لا تصمد أمام هذا المنهج العلمي.
ومن الذين اعتمدوا على تطبيق هذا المنهج الباحث السعودي حسن بن فرحان المالكي الذي ألف من خلاله سلسلة من الكتب النقدية تحت عنوان “ نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي “ أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الإسلامية المختلفة ومنهم الأكاديمي الكويتي الدكتور عبدالعزيز الهلابي في كتابه “ عبدالله بن سبأ .. دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة “ وأيضا الباحث العماني الأستاذ علي بن محمد الحجري في كتابه « الإباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالات» ومن الملاحظ إن الأربعة توصلوا تقريبا إلى نفس النتائج في قضايا كثيرة من ضمنها البحث في الفتنة الكبرى التي أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان .
وهناك أيضا المنهج الإنتقائي والتبجيلي وهو الإيمان بقضية معينة ومن ثم البحث في كتب التراث في ما يدعم هذه القضية والخروج بحصيلة إن القضية هي موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة ومن ثم فهي حقيقة تاريخية ولا يمكن التشكيك فيها وتعتبر التيارات المذهبية المختلفة في العالم الإسلامي من أبرز مستخدمي هذا المنهج ولعلي أشير هنا إلى كتاب «تاريخ الدولة الاموية» للأستاذ يوسف العش وكتاب « حقبة من التاريخ» للشيخ عثمان الخميس وكتاب «السقيفة » للشيخ محمد رضا المظفر وغيرها .
كيف نقرأ التاريخ ؟
للحصول على الوقائع التاريخية المهمة هناك ثلاث طرق أمام الباحث وهي الأول : مشاهدة الأحداث بشكل مباشر وهو ما يحصل الآن في تغطية الاحداث الثقافية والسياسية والعسكرية ولعل نقل حرب الخليج الثانية والثالثة على الهواء مباشرة أبرز مصداق على ذلك.
الثاني: المشاهدة عبر الآثار والحفريات وغيرها من الكشوف الأثرية التي تكشف واقعا كبيرا عن حياة الإنسان في الأرض قبل آلاف السنين وكذلك معرفة الطرق التي كان يعتمد عليها في الزراعة والصيد والأسلحة التي كانت تستخدم في القتال وغيرها .
الثالث: السماع والرواية وهو ما ينطبق تماما على الأحداث التاريخية التي جرت في عهد صدر الإسلام وما بعدها حيث لم يبقى لنا لمعرفة ما حدث آنذاك سوى الكتب التاريخية فقط التي روت تلك الأحداث عن طريق الرواية الشفوية ومن أبرز تلك الكتب والمراجع تاريخ الطبري وتاريخ المسعودي وتاريخ الواقدي وغيرها.
وقد ذكر الباحث العراقي المعاصر الدكتور صائب عبد الحميد في كتابه «علم التاريخ ومناهج المؤرخين» إن هناك طريقين لمعرفة صحة النصوص التاريخية من عدمها وهي :
1 – النقد الظاهري وينظر من خلال صحة السند من عدمه وكذلك في صحة المصادر التي ذكرت النص لأن هناك الكثير من الأصول التاريخية قد تعرضت إلى التحريف والزيادة والنقصان وغيرها ولعل الأستاذ صائب عبد الحميد يشير هنا إلى محنة بعض المصادر التاريخية والحديثية في هذا العصر حيث نشطت عمليات التحقيق والتصحيح من بعض التيارات المذهبية والسياسية وتحكمت فيها نزوات المحققين وخلفياتهم الأيديولوجية فحذفت أشياء وحرفت أخرى خيانة للعلم والحقيقة وإنتصارا للأهواء .
2 – وأما المرحلة الثانية فتسمى بالنقد الباطني ويراد منه الوصول إلى الحقائق من الأصول التاريخية وذلك من خلال طرح بعض الأسئلة التي تتعلق بالنص مثل :
1 – ما معنى النص التاريخي وما المراد منه؟
2 – ما هي العوامل التي يمكن أن تكون قد تركت أثرها في صياغته؟
3 – هل كانت هناك ظروف كافية مكنت صاحب الأصل من نقل الواقعة التاريخية على حقيقتها ؟
ولعلي أشير هنا إلى بعض الأحداث التاريخية الحاسمة في التاريخ الإسلامي مثل المعارك والحروب فإن الروايات التاريخية تذكر لنا تفاصيل دقيقة جدا عن تلك الاحداث من حيث عدد الجيوش واعداد القتلى بل والحوارات التي كانت تجري في داخل المعركة بين الأطراف المختلفة والخطب الحماسية التي كانت تلقى فيها ولا أدري كيف توفرت للرواة الظروف الأمنية وقوة الحفظ والتركيز بين صليل السيوف ورؤية الدماء وووجوه القتلى المتساقطين على الأرض من هذا الطرف أو ذاك من رؤية جميع تفاصيل المعركة وسماع وحفظ كل تلك المساجلات والخطب مما يشكك في قيمة الكثير من تلك الروايات لإنها اعتمدت فقط على الذاكرة وهي قابلة للنسيان والزيادة والنقصان حسب الطبيعة البشرية للإنسان .
وأشير هنا أيضا إلى ملاحظة وهي أن بعض الأصول التاريخية لعبت الأهواء المذهبية والقبلية دورا كبيرا جدا وواضحا في تأليفها وصياغتها بحيث فقدت أهميتها واعتبارها عند أصحاب التحقيق العلمي وابرز مثال على ذلك كتابي «الفتوح والردة» و «الجمل ومسير عائشة» للمؤرخ العراقي سيف بن عمر التميمي وكتاب «العواصم من القواصم » للفقيه المالكي أبي بكر بن العربي وحاشيته للسيد محب الدين الخطيب وغيرها .
نقد القراءة التبجيلية للتاريخ
ليس من المعيب أن تفتخر كل أمة بتاريخها ورموزها وشخصياتها التاريخية ولكن المشكلة أن تكون قراءة هذا التاريخ من الجانب التبجيلي فقط وكأن التاريخ كان خاليا من الممارسات الخاطئة والسياسات غير الصحيحة يقول الدكتور خليل عبد الكريم عن القراءة التراثية التبجيلية للتاريخ بإن صورا زوائف تحتل مساحة التاريخ العربي الإسلامي بكامله بل إنها من القوائم الرواسخ فيه لدى الغالبية العظمى … وهنا حقيقة مهمة موجزها ان ابطالها لا تبعة عليهم في تزييفها فلم يكن بعضهم او معظمهم براض عن رسم لوحتها أما الكتب التراثية فلا مسؤولية على مصنفيها الذين رصدوا الوقائع بصدق وامانة او على الأقل غالبيتهم بيد أن تزييف تلك الصور وبرقشتها وزخرفتها وإخفاء الجوانب السيئة فيها وغفشاء النواحي المضيئة والمبالغة فيها جاء على أيدي أجيال مصلية (تالية) وشجعت وآزرت هذا العمل البالغ الفسولة ومصالح ومنافع وسلطات متنوعة وهي نفسها التي ضمنت له الإستمرارية قرنا وراء آخر لأن لها أصحابا في كل زمان ومكان .
- من اهم خصائص القراءة التبجيلية للتاريخ :
1 – تقديس الرموز الدينية والشخصيات التاريخية بحيث لا يستطيع الباحث الحقيقي الحفر في التاريخ حسب المناهج العلمية الحديثة وإلا لأتهم بالعداء للدين والشعوبية والعلمانية وغيرها من الإتهامات الأيديولوجية الجاهزة .
2 – تبدو الروح المذهبية واضحا جدا عند أغلب مؤرخي الإسلام فأغلبهم يقرأ التاريخ حسب انتمائه المذهبي ومن يقرأ كتاب الطبري مثلا يلاحظ أنه كان يتعمد عدم ذكر بعض الاحداث وبتر بعضها ويبرر ذلك بانها مما لا تحتمل العامة سماعها وأما إبن كثير فقد كان نقده لبعض الأخبار في كتابه «البداية والنهاية» ينطلق من موقف مذهبي بالدرجة الاولى وهذه الروح يبدو واضحا أيضا في كتاب « تاريخ اليعقوبي» وكتاب « إعلام الورى» للطبرسي فقد كان إتجاههما المذهبي مخالفا للطبري وإبن كثير ويبدو التأثر المذهبي واضحا عليها .
3 – الإيمان بالظواهر الخارقة وللاعقلية والامور اللامنطقية التي حملتها الكثير من كتب التراث وخاصة كتاب تاريخ الطبري والواقدي وغيرها وكانت النتيجة إن تمكنت هذه الروايات من غزو العقل المسلم بحيث أصبح من الصعوبة الخروج عليها لأنها أصبحت عند الكثير من المسلمات المقدسة التي لا تمس .
4– اختلاط السياسة والتاريخ بالدين حتى أصبح جزءا لا يتجزء منه وقد ناقشنا الآثار السلبية لهذا الإختلاط في مقال سابق .
ويعتقد الباحث السعودي الأستاذ حسن بن فرحان بأن الفترة التي تلت وفاة النبي محمد عليه السلام إلى نهاية العصر الراشدي هي أحرج الفترات وأشدها حاجة إلى الدراسات والبحوث الجادة المتأنية وجمع للروايات وتصنيفها من حيث القوة والضعف وشواهدها نظرا لما تعرضت له تلك الفترة من قصور من قبل كثير من المؤرخين والكتاب بل وبعض المحققين الإسلاميين أو من الأكاديميين الشرعيين أيضا .
وأنا أرى أن ضعف الكتابة التاريخية لهذه الفترة المهمة جدا من تاريخ الإسلام والمسلمين من أهم أسباب إختلاط النص الديني بالتاريخ وكذلك من أسباب التعصب المذهبي وإنقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب مختلفة الكتابة لأن فيها اتخذت طابعا مذهبيا أكثر منها تاريخيا وأكاديميا بحيث أصبح التفتيش عن الروايات لصالح هذا الطرف أو ذلك أهم من البحث عن الحقائق التاريخية وأصبح الإنتصار للمذهب أهم من الإنتصار للعلم والتاريخ .
موقع سبلة عُمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق